تحليل نص فلسفي حول العادة والتكرار لبول غيوم مقالة جدلية ✓ هل العادة وليدة التكرار أم وليدة عوامل نفسية واجتماعية ؟
هل العادة سلوك آلي مرتبط بالجسم أم أنها فاعلية نفسية واجتماعية ؟
طرح المشكلة :
يسعى الإنسان إلى التكيف مع العالم الخارجي وكشف غموضه باستخدام مجموعة من الآليات والوسائل ، ومن بين هذه الآليات نذكر على سبيل المثال لا الحصر العادة والإرادة ، فالعادة من حيث مفهومها تعني أنها قدرة مكتسبة على أداء فعل ما مع السرعة والدقة والاقتصاد في الجهد ، ولقد طرح موضوع العادة جدلا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين ، حيث ذهب البعض إلى اعتبار العادة هي اعتياد وتكرار آلي مرتبط بالجسم ، في حين ذهب البعض الآخر إلى اعتبار أن أساس تكوين العادات مرتبط بعوامل نفسية واجتماعية ، وبين هذا وذاك وجب طرح التساؤل التالي : هل التكرار وحده كاف لاكتساب العادات أم أن هناك عوامل أخرى تتحكم في ذلك ؟
محاولة حل المشكلة :
الموقف الأول : يرى العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم " ارسطو ، ماك دوغال ، بافلوف ، واحسن ، ثورندايك " أن السلوك التعودي لا يمكن أن يترسخ إلا إذا داومنا على تكراره ، فالتكرار هو العامل الرئيسي في تكوين العادات ، فالفعل لا يصبح عادة إلا إذا قمنا بتكراره عدة مرات ، فالعازف لا يكتسب مهارة العزف على الكمان إلا من خلال تكرار العزف عدة مرات حتى يصبح عملية آلية ، يقول " ارسطو " : « العادة وليدة التكرار » ، وحسب هؤلاء أنه لكي تتم عملية اكتساب الفعل التعودي بنجاح لابد من تقسيمه إلى أجزاء وتكرار كل جزء على حدى ، وهذا مثل ما يحدث عند تعودنا على مهارة السباحة ، فلكي نتعود على السباحة كرياضة لابد من تقسيم هذه المهارة إلى أجزاء ومراحل ( التعود على عدم الخوف من الماء ، تعلم غطس الرأس في الماء...الخ ) ، كما ذهب الفيلسوف الفرنسي وابو الفلسفة الحديثة " رونيه ديكارت " إلى إعتبار أن السلوك التعودي الذي يقوم على التكرار يترك أثرا ماديا على مستوى الجهاز العصبي ، وهذا الأثر المادي يسهل علينا اكتساب العادات وتكرارها من جديد ، وقد اعتقد ديكارت أن العادة شبيهة بالطية أو الثنية ، فالثنية التي قمنا بطيها على الورقة تسهل علينا طيها من جديد ، وهذا لأنها تركت ما يدل عليها ، وبالتالي فالعادة تترك في الدماغ آثارا مادية تسهل علينا تكرارها من جديد ، وهذا ما أكده " ماك دوغال " في قوله : « إن العادة ليست سوى مجموعة منظمة من الآثار المترابطة في الجهاز العصبي » ، كما ذهب أيضا " بافلوف " إلى إعتبار أن سلوك الإنسان هو استجابة آلية لمنبهات خارجية نتيجة التكرار ، وقد أثبت ذلك من خلال تجارب المنعكس الشرطي ، إذ لاحظ أن الكلب يسيل لعابه لمجرد رؤية الخادم ، فقام بالتجربة التي تمثلت في الإقتران بين المثير الطبيعي ( اللحم المجفف ) والمثير الإصطناعي ( صوت الجرس ) لعدة مرات ، ثم قام بإزالة المثير الطبيعي والإبقاء على المثير الإصطناعي ( صوت الجرس ) فحدثت نفس الإستجابة وهي سيلان اللعاب ، أما زعيم المدرسة السلوكية " واطسن " قام بتجربة المنعكس الشرطي على الإنسان من خلال التجربة على " آلبرت الصغير " التي أثبت خلالها أن الخوف ليس فطري في الإنسان بل يحدث بسبب التكرار ، حيث قام بإحضار فأر أبيض ولاحظ أنه - أي الطفل - لم يكن خائفا منه ، بعد ذلك قام بعملية الإقتران بمساعدة خادمته " راينر " ، حيث أحضر الفأر الأبيض للصبي ( المثير الطبيعي ) وقاما بقرع القضيب الحديدي ( المثير الشرطي ) في نفس الوقت الذي يخرج فيه الفأر ، فبكى الطفل من الخوف ، وقد تم تكرار العملية لعدة مرات ، وأخيرا قاما بإحضار الفأر الأبيض بمفرده بدون المثير الشرطي فظهر الخوف على الصبي ، ومن ثم أظهرت التجربة كيف أن المشاعر قد تصبح ردود أفعال مشروطة نتيجة التكرار . في حين ذهب " ثورندايك " إلى اعتبار أن الإنسان يتعلم من خلال المحاولة والخطأ ، فالإنسان أثناء تعلمه لسلوك معين بعد تكراره عدة مرات فإنه يبقي على المحاولات الصحيحة ويتخلص من الخاطئة ، وقد وضع ثورندايك قط جائع داخل قفص حديدي مغلق له باب يفتح ويغلق بواسطة سقافة ، ثم وضع خارج القفص طعام بحيث إذا نجح في الخروج يحصل على الطعام ، ولاحظ أن محاولات القط الأولى كانت عشوائية وبعد تكرار التجربة أصبحت عملية خروج القط تتم بسهولة وسرعة نتيجة لاستبعاد المحاولات الخاطئة .
نقد وتقييم :
صحيح أن التكرار يلعب دور كبير في تكوين العادات ، لكن هؤلاء نظروا إلى الإنسان وإلى الكائن الحي بصفة عامة نظرة آلية وهو ما يجرد الإنسان من إنسانيته ، فاعتبار الإنسان مجرد آلة تكرر مجموعة من الحركات فيه مساس بكرامة الإنسان وطابعه القيمي ككائن عاقل وواعي ، ثم أين الشعور والإنتباه ؟ حيث يستحيل تعلم سلوك دون تدخل الوعي ودون تدخل العوامل النفسية كالرغبة والإرادة مثلا ، ولعل هذا ما جعل بعض المفكرين يرون أن أساس تكوين العادات مرده إلى عوامل نفسية وعقلية وإجتماعية .
الموقف الثاني :
من جهة أخرى يرى العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم " فون درفلت ، كوهلر ، دولاكروا ، دوركايم " إلى اعتبار أن العادات مرتبطة بالاستعدادات الذهني الذهنية والفعاليات النفسية ، فالعادة لا يمكن اكتسابها إلا إذا كان العقل حاضرا مع وظائفه العليا من إدراك وذاكرة وذكاء...الخ ، حيث يؤكد " فون درفلت " إلى إعتبار أن العادة ليست مجرد تكرار لحركات سابقة و إنما هي تجديد وتطور دائم ، ومثال ذلك أن الطفل أثناء تعلمه الكتابة لا يكتب بنفس الطريقة ، ففي كل مرة يعدل من خطه حتى يصبح أكثر سلامة ووضوحا ، حيث يؤكد ذلك في قوله : « إن الحركة الجديدة ليست مجرد تجمع حركات قديمة إنها تحذف الحركات غير المجدية والزائدة » ، كما أكدت المدرسة الجشتالطية بزعامة " كوهلر " على أن تعلم السلوك لا يكون عن طريق تجزيئه وتكراره وإنما يكون عن طريق فهمه فهما كليا " نظرية الإستبصار " ، فتعلم كتابة مقال فلسفي لا يحتاج إلى تكرار وإنما يحتاج إلى فهم آليات كتابة المقال الفلسفي ، وهذا ما أثبته كوهلر من خلال تجربته على الفرد والصناديق ، حيث وضع قرد داخل غرفة ، ووضع موزة على السقف بحيث لا يمكن الوصول إليها مباشرة ، وفي ركن الغرفة وضع ثلاثة صناديق ، فأخذ الشامبانزي ينظر إلى الفاكهة ويحاول الوصول إليها بمد يديه للوثب ولكنه فشل ، ثم أخذ ينظر من ركن إلى آخر في حيرة ، وأخيرا لاحظ الصناديق فنظر إليها ونظر إلى الموزة فوقه فأدرك كيفية الوصول إلى الهدف ، وذلك من خلال الاستعانة بالصناديق ، كما قام " كوهلر " بتجربة القرد والعصاتين الطويلة والقصيرة ، فحاول القرد عدة مرات للوصول إلى الموزة المعلقة في السقف ، حيث تلصق العصا القصيرة بالطويلة مثل لعبة التركيب ، ولكن محاولات القرد في البداية كانت فاشلة ، ولكن مع مرور الوقت حاول القرد تركيب العصاتين إلى أن وجد فجوة فادخلهما في بعض ومد العصا إلى الموزة وحصل عليها ، حيث وصل القرد إلى الإستبصار وهو بمعنى أن يصل الكائن الحي لنتيجة مرضية ، كما أن العادات تحتاج في تكوينها إلى الإهتمام والرغبة ، فالإهتمام والميل نحو شيء ما يسهل التعود عليه ويخلق فينا الإرادة القوية ، فالعازف لو لم يكن يملك الإرادة لما اكتسب عادة العزف ، يقول " دولاكروا " : « إن الإنتباه وإرادة التعلم وكيفية تصور العمل كل ذلك يؤثر في تكوين العادات » ، كما أن هناك العوامل الإجتماعية التي لها دور كبير في تكوين العادات ، فنحن نكتسب من المجتمع اللغة ونكتسب منه العادات والعرف والتقاليد ، فالمجتمع يجعلنا خاضعين لنظام محدد تمليه علينا الجماعة ، وهذا ما أكده" دوركايم " في قوله : « حينما يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم » .
نقد وتقييم :
صحيح أن العادات في تكوينها تتطلب حضور الوعي والاهتمام والرغبة والى عوامل اجتماعية ، إلا أن هذا الطرح بالغ في اقصاءه وإنكاره لدور التكرار ، فتوفر هذه العوامل في ظل غياب التكرار لن يؤدي إلى اكتساب الفعل التعودي مثل تعلم السياقة ، وبالتالي فالواقع يثبت دور التكرار في ترسيخ أفعالنا وسلوكاتنا .
تركيب :
من خلال ما سبق ذكره يمكننا القول بأن العادة سلوك يكتسب بالتكرار وليس سلوكا لاشعوريا بل سلوك يخضع إلى العقل الذي يراقبه وينظمه ويعدله كلما إقتضت الضرورة إلى ذلك ، وكذلك فإن العادة تبنى عن طريق محصلة من الرغبة والإرادة لتعطيها دفعة نحو تحقيقها وبلورتها إلى جملة من السلوكات التي تهدف إلى التكيف مع العالم الخارجي ، وهذا ما أكده " بول غيوم " في قوله : « إن علم النفس لا يجد صعوبة في استخلاص شرطين في تكوين العادات وهما : من جهة مرات تكرار الفعل ومن جهة أخرى الإهتمام الذي يوليه الشخص لفشله وإنجاحه » .
حل المشكلة :
في الأخير يمكننا القول أن التكرار دور كبير في تكوين العادات واكتساب السلوك التعودي ، لكنه لوحده غير كاف فلابد من حضور العقل والفاعليات النفسية والعقلية والإجتماعية ، فالعادة ليست سلوك آلي محض بل سلوك خاضع للعقل الذي يراقبه ويعدله على حسب الضرورة ، ومن هنا فالعادة هي محصلة للعوامل النفسية والإجتماعية والعوامل الآلية ( التكرار ) .